الخميس، 19 يناير 2017

"الشّاعر حامل لنبوءة السّماء"


لمحة نقديّة في شذرة للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي.

لأنّك منّي
سأخبر السّماء
كي تدبّر أمراً:
خياماً للوحي
هوامش للعراء...
آفاقاً أرحب لعناق مختلف
.....
الشّعر عالم يتوسّط السّماء والأرض. كلّما لامس الشّاعر إنسانيّته واقترب من كمالها امتدّ كيانه ليلج قلب السّماء. فإذا بالشّعر يستحيل تجليّات نبوءة تمنح الشّاعر رتبة "النّبيّ"، أي حامل كلمة الحبّ الإلهيّ.  نبوءة الشّعر واحدة، تخترق كيان الشّاعر فيحدّث السّماء من جهة، ويخاطب الإنسان من جهة أخرى. ما نعاينه جليّاً في إشراقات يوسف الهمامي.  وهي إشراقات لأنّها تنسحب إلى عمق النّفس، تقبض على أعماقها، تُسكرها، ترفعها ثمّ تتيح للعقل أن يتلمّس بعضاً من الحقيقة الكامنة في قلبه.
تشبه بنية السّطور الأولى مثلّثاً متساوي الأضلاع يعكس مبدأ ثالوث اتّحاديّ يفقد قيمته بفقدان إحدى أضلاعه. اتّصال أفقي عموديّ بين السّماء والأرض، يوحي بصلة الشّاعر الوثيقة والحميمة مع السّماء (سأخبر السّماء). والصّلة العميقة بالشّخص المخاطَب الّتي تصدّرت النّصّ (لأنّك منّي). ومعرفة الشّاعر لذاته النّبويّة وقيمتها في عينيّ السّماء، وقدرته على محاورتها (كي تدبّر أمراً). استخدم الشّاعر لفظ (أخبر) بدل من (أطلب)، ما يعزّز معنى التّجذّر في ما بعد هذا العالم.
الثّالوث الاتّحاديّ (لأنّك/ منّي/ السّماء) يعرّف عن تماهٍ خالص بين المحبوبة والشّاعر والسّماء. فنشهد ترتيباً شعريّاً واعياً يجعل المحبوبة في المرتبة الأولى، ثمّ الشّاعر، ثمّ السّماء. بيد أنّ هذا التّرتيب غير معنيٍّ بالمنطق العقلانيّ وإنّما الشّعريّ السّماويّ. ففي المنطق البشريّ، السّماء أهمّ من الشّاعر ومحبوبته، ولعلّ هذا المنطق يفرض حضور السّماء أوّلاً في النّصّ. إلّا أنّ الشّاعر رسم درباً واضحاً يبدأ مع المحبوبة الّتي منه، ويخلص إلى السّماء. وفي ذات الوقت، لا يمكن الاتّصال بالسّماء إلّا من خلال هذا الاتّحاد بين المحبوبة والشّاعر. (أنا- أنت- السّماء).
يفترض هذا الاتّحاد العشقيّ السّماويّ خروجاً عن المألوف البشريّ، أو تبايناً بين منطق العشق البشريّ ومنطق العشق المتفلّت من القيود الزّمانيّة والمكانيّة. يعبّر لفظ (خيام) عن حالة يلجها الشّاعر ومحبوبته أشبه بغيمة تظلّل الوحي المنسكب فيهما معاً. هي حالة حرّة بالمطلق يطالب بها الشّاعر كنتيجة حتميّة لانتمائه السّماويّ. (هوامش للعراء) تمنح الشّاعر آفاقاً حرّة ليتنعّم بعشقه، ويتفرّد بحالته النّبويّة العشقيّة، باحثاً عمّا يليق به والمحبوبة والسّماء. (آفاقاً أرحب لعناق مختلف).
ما هو من فوق، ينبغي أن يمتثل للحالة العشقيّة المتفرّدة والمغايرة لمنطق العالم. والشّاعر الشّاعر يهتمّ بما فوق ويتّسم بالفكر الأسمى، ويصطبغ بالجمال الأعلى. يرنو إلى أفق ملتصقة برحاب السّماء، ويرتشف الشّعر سرّ الكلمة الوحي.

  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق