الأربعاء، 8 فبراير 2017

وقفة مع (نزار قبّاني)


"قصّتي مع الشّعر"  ورؤيا الدهشة في عوالم الشعر
مادونا عسكر/لبنان
 ( قصّتي مع الشّعر) هو عنوان الكتاب التّاسع والعشرين من سلسلة كتب لنزار قباني ضمن سلسلة أعماله النّثريّة، ويتضمن هذا الكتاب: مذكرات أندلسية، الرقص بالكلمات، تحطيم الأشياء ، سقوط الوثنية الشّعريّة، اغتصاب العالم بالكلمات، قالت لي السّمراء، اللّغة الثّالثة، انتظار ما لا ينتظر بالإضافة إلى عدة مواضيع أخرى.
أراد نزار قبّاني في هذا الكتاب صياغة قصّته مع الشّعر بنفسه قبل أن يكتبها غيره، كما أراد أن يعبّر عن نفسه بنفسه ويكشف ستائرها قبل أن يفعل النّقّاد ذلك، فهو يعدّ نفسه الوحيد القادر على ذلك. هذا الكتاب هو بمثابة دفتر مذكّرات سجّل فيه نزار رحلته في غابات الشّعر. وهو نوع من السّيرة الذّاتيّة، والسّفر في داخل الذّات ومخاطبتها بصدق وشفافيّة.
اخترت من هذا الكتاب نصّاً بعنوان: اغتصاب العالم بالكلمات. يكشف هذا النّصّ عن رؤية "نزار قبّاني" للمنظومة الشّعريّة وما تعنيه له، بعيداً عن النّظم التّقليدي والرّوتيني، فالشّعر بنظر "نزار قباني" هو إشعال الكون لتبديله.
"سرقة النّار كانت هوايتي". هكذا يستهلّ "نزار قبّاني" نصّه النّثريّ المفعم بالثّورة على الكلمات. لم يسرق كاتبنا نار السّماء كبروميثيوس، على حدّ تعبيره لأنّ السّماء لم تكن تهمّه. وبروميثيوس سرق شعلة المعرفة من عند زيوس كبير الآلهة، بحسب الأسطورة، ليعطيها للبشر، لأنّه ارتأى أنّ المعرفة لا يصحّ أن تبقى لدى الآلهة فقط. لكنّ كاتبنا وشاعرنا العظيم يهوى إشعال الحرائق في وجدان النّاس وثيابهم بحسب ما يورد في نصّه.
ولعلّ نزار قبّاني لا يريد سرقة النّار السّماويّة لأنّه يريد تحريك النّاس من الدّاخل ليكتشفوا المعرفة بأنفسهم، ولا يمنحهم إيّاها كتلقين أو تعليم. ووجدان النّاس يحتاج لوقود خاصّ، لينتفض كيانهم وينقلب رأساً على عقب، فيتبدّلون ويرتفعون إلى مستوى إنسانيّتهم. وهذا الوقود الخاص، بحسب "نزار قبّاني"، هو الشّعر. والشّعر، متحف الكلمة، السّلاح الّذي إذا ما فتك بالإنسان انتشله من عبوديّة الجهل وأطلقه حرّاً في سماء المعرفة والحكمة. وهي النّار الآكلة لكلّ تشويه فكريّ ووجدانيّ لتخلق منه إبداعاً وبراعة.
كان همّ "نزار قبّاني" أن يزعزع روح النّاس ويضرم فيها النّار بالكلمة الشّعريّة الّتي يشبّهها بعود الثّقاب، والّذي على الرغم من صغر حجمه يمكنه إيراء غابة بأكملها. كذا فِعل الكلمة، فبحروفها المعدودة، تقوى على إشعال كيان الإنسان لينير العالم.
ويختار "نزار قبّاني" قول "دورنمات" المؤلّف الرّوائي والمسرحي السّويسري، ليعنون نصّه فيشاركه أهمّيّة اغتصاب العالم بالكلمات، بمعنى تمزيق الغشاء الّتي تنسجه المفردات والأفكار والعواطف حول نفسها مع تقادم الزّمن. وهذا النسيج يتمثّل بالعادة والإدمان على كل ما هو تقليدي. فيتمسّك الإنسان بهذا النّسيج ويخاف الإقلاع عنه، أي أنّه يخاف التّغيير والتّطوير. فيعتقل نفسه بأفكار اعتنقها واكتسبها واعتبرها جزءاً منه ومن وجوده فلا يجرؤ على تبديلها أو تحسينها أو حتّى التّأمّل فيها لتصويب ما كان خاطئاً منها. ولا يوقظه من هذا الثّبات إلّا عامل الدّهشة، الّتي يحدثها الشّاعر. وعظمة الشّاعر بحسب "قبّاني"، تكمن في قدرته على إحداث الدّهشة بتخطّي المنظومة الشّعريّة العامّة والّتي تتّخذ مع الوقت صفة القانون السّرمديّ، ليتمرّد عليها ويخلق إبداعاً شعريّاً يشعل قلب الإنسان ويوقد فيه نار الكلمة، فيأتي شعره غير متوقّع، كصدمة تهزّ عرش الكلمة الجامدة والجافّة. إنّه الشّعر الّذي يسير عكس التّيّار، ويحدث انقلاباً بالحدس والمغامرة وليس بالانتظام والقواعد، بل وكأنّ الشّاعر يمسك الكون بيديه ويزلزله ليفجّر منه ماء عذبا يروي صحراء العالم القاحلة فيحوّل معالمها.

وتذكّرنا نظرة "قبّاني" للشّعر برؤية أديبنا العظيم "ميخائيل نعيمة" إذ يعبّر عنه بقوله: " أريد أن يدخل الشّعر نفسي، فيبعث فيها إمّا القلق، أو الدّهشة، أو الوحشة، أو الغبطة، أو الحزن، أو النّشوة بلمحة شاردة من الجمال، أو كلّ هذه مجتمعة. أريده أن يكون فلذة كبد الشّاعر لا رغوة من دماغه، أن يكشف لي مجاهل في نفسي، آفاقاً بعدها آفاق، وأغواراً تحتها أغوار. أريده أن يزيد في ثروتي الرّوحيّة والجماليّة بما فيه من قوّة الرّوح والجمال، لا أن يثير إعجابي بما فيه من متانة السّبك وبراعة الصّناعة وحسب". (ميخائل نعيمة- سبعون- الجزء الثّاني).
إنّ الشّعر هو سحر الكلمة وقدرتها عل اقتحام أسوار النّفس وإضرام النّار فيها لتنقّيها من كلّ شائبة وإعادتها إلى ما كانت عليه من بهاء وجمال. وكم من مرّة فعلت الكلمة فعلها بالكثير من العقول والنّفوس، بالأخص الكلمة الشّعريّة. فهي كالوحي تنسكب في قلب الشّاعر وتسكن ضميره فيسمع همسها ليلاً نهاراً إلى أن تفيض من عمق أعماقه على العقول فتنيرها وعلى القلوب فتطربها.
الشّعر نضال حقيقيّ والشّاعر مناضل كبير يحمل الكلمة ويخاطب بها عالماً منغمساً بالحقد والكراهية والأنانيّة، ويوخز ضمير الإنسان النّائم في مهد الجهل والخمول. كما أنّه يرفع راية الحبّ والجمال ويقتحم بها أبواب جحيم الفراغ من الحبّ، فيطفئ نارها ليشعل لهيباً حارقاً من الأحاسيس المرهفة والرّقيقة. هو المتألّم النّبيل الّذي يبثّ الفرح في قلوب النّاس، ويرسم البسمة على وجوههم، وهو المتحرّر من قيود واهمة وتقاليد فارغة، والعاشق الّذي يأبى إلّا أن يخط عشقه حقيقة على صفحات القلوب. فلا معنى لشعر يستخرج الكلمات من الذّاكرة ويرصفها على صفحات بيضاء، ولا معنى لكلمات وتعابير لا تنقل الحقيقة إلى القارئ وتقبض على قلبه فتزيد من نبضاته.
ألم تدهشنا قصائد "نزار قبّاني" برنينها العذب وعمقها المترجم بكلمات بسيطة؟ ألم يقتحم علينا خلوتنا وفاجأنا بأحاسيس لم نعهدها، وبنواميس لم نتعامل معها من قبل، وبطقوس لم نمارسها إلا في عالمنا المظلم؟ ألم يكسر شعره الإدمان فينا على تقاليد وقناعات سجنت عقولنا وأنهكت مشاعرنا؟
لقد اغتصب "نزار قبّاني" عالم الكلمة، ومزّق نسيج الخمول والبلادة واقتحم المنظومة الشّعريّة الجافّة واطلق الكلمة في رحاب الكون فبدّل معالمه، وأيقظ العقول ونقلها من مملكة الإدمان إلى مملكة الدّهشة، فهذا هو الشعر الحقيقي الذي يظل شاهدا على حضور الشاعر الذي لن يغيب على الرغم من غياب الموت!!





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق